فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

قوله: {عم}
أصله عن ما {يتساءلون} عن أي شيء يتساءلون يعني المشركين ولفظه استفهام، ومعناه التفخيم كقولك، أي شيء زيد إذا عظمت شأنه، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعاهم إلى التوحيد، وأخبرهم بالبعث بعد الموت، وتلا عليهم القرآن جعلوا يتساءلون فيما بينهم فيقول بعضهم لبعض ماذا جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ثم ذكر عما ذا تساؤلهم فقال تعالى: {عن النبأ العظيم} يعني الخبر العظيم الشأن قال الأكثرون هو القرآن، وقيل هو البعث وقيل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به {الذي هم فيه مختلفون} فمن فسر النبأ العظيم بالقرآن قال اختلافهم فيه هو قولهم إنه سحر أو شعر أو كهانة أو نحو ذلك مما قالوه في القرآن، ومن فسر النبأ العظيم بالبعث قال اختلافهم فيه فمن مصدق به، وهم المؤمنون ومن مكذب به، وهم الكافرون ومن فسره بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم قال اختلافهم فيه كاختلافهم في القرآن {كلا} هي ردع وزجر وقيل هي نفي لاختلافهم، والمعنى ليس الأمر كما قالوا {سيعلمون} أي عاقبة تكذيبهم حين ينكشف الأمر يعني في القيامة {ثم كلا سيعلمون} وعيد على أثر وعيد، وقيل معناه كلا سيعلمون يعني الكافرين عاقبة تكذيبهم وكفرهم ثم كلا سيعلمون يعني المؤمنين عاقبة تصديقهم وإيمانهم ثم ذكر أشياء من عجائب صنائعه ليستدلوا بذلك على توحيده، ويعلموا أنه قادر على إيجاد العالم وفنائه بعد إيجاده وإيجاده مرة أخرى للبعث والحساب، والثواب، والعقاب فقال تعالى: {ألم نجعل الأرض مهاداً} أي فراشاً وبساطاً لتستقر عليها الأقدام {والجبال أوتاداً} يعني للأرض حتى لا تميد {وخلقناكم أزواجاً} يعني أصنافاً ذكوراً وإناثاً.
{وجعلنا نومكم سباتاً} أي راحة لأبدانكم وليس الغرض أن السبات للراحة بل المقصود منه أن النوم يقطع التعب ويزيله، ومع ذلك تحصل الراحة، وأصل السبت القطع، ومعناه أن النوم يقطع عن الحركة والتصرف في الأعمال {وجعلنا الليل لباساً} أي غطاء وغشاء يستر كل شيء بظلمته عن العيون، ولهذا سمي الليل لباساً على وجه المجاز، ووجه النعمة في ذلك هو أن الإنسان يستتر بظلمة الليل عن العيون إذا أراد هرباً من عدو ونحو ذلك.
{وجعلنا النهار معاشاً} أي سبباً للمعاش والتصرف في المصالح وقال ابن عباس تبتغون فيه من فضل الله وما قسم لكم من رزقه {وبنينا فوقكم سبعاً شداداً} يعني سبع سموات محكمة ليس يتطرق عليها شقوق ولا فطور على ممر الزمان إلى أن يأتي أمر الله تعالى: {وجعلنا سراجاً وهاجاً} يعني الشمس مضيئة منيرة، وقيل الوهاج الوقاد، وقيل جعل في الشمس حرارة ونوراً والوهج يجمع النور والحرارة {وأنزلنا من المعصرات} يعني الرياح التي تعصر السحاب.
وهي رواية عن ابن عباس: وقيل هي الرياح ذوات الأعاصير، وعلى هذا المعنى تكون من بمعنى الباء، أي وأنزلنا بالمعصرات، وذلك لأن الريح تستدر المطر من السّحاب، وقيل هي السحاب وفي الرواية الأخرى عن ابن عباس المعصرات السّحابة التي حان لها أن تمطر، ولما تمطر وقيل المعصرات المغيثات والعاصر هو الغيث، وقيل المعصرات السّموات، وذلك لأن المطر ينزل من السّماء إلى السحاب {ماء ثجاجاً} أي صباباً مدراراً متتابعاً يتلو بعضه بعضاً، ومنه الحديث: «أفضل الحج العج والثج»، أي رفع الصوت بالتلبية وصب دماء الهّدى {لنخرج به} أي بذلك الماء {حبًّا} أي ما يأكله الإنسان كالحنطة ونحوها {ونباتاً} أي ما ينبت في الأرض من الحشيش مما يأكل منه الأنعام {وجنات ألفافاً} أي ملتفة بالشجر ليس بينها خلال فدل على البعث بذكر ابتداء الخلق ثم أخبر عنه بقوله تعالى: {إن يوم الفصل} أي الحساب {كان ميقاتاً} أي لما وعده الله من الثواب والعقاب وقيل ميقاتاً يجمع فيه الخلائق ليقضي بينهم {يوم ينفخ في الصور} يعني النفخة الأخيرة {فتأتون أفواجاً} يعني زمراً زمراً من كل مكان للحساب.
{وفتحت السماء فكانت أبواباً} يعني فكانت ذوات أبواب لنزول الملائكة، وقيل تنحل وتتناثر حتى يصير فيها أبواب وطرق {وسيرت الجبال} أي عن وجه الأرض {فكانت سراباً} أي هباء منبثاً كالسراب في عين الناظر {إن جهنم كانت مرصاداً} أي طريقاً وممراً فلا سبيل لأحد إلى الجنة حتى يقطع النار وروي عن ابن عباس «إن على جسر جهنم سبع محابس يسئل العبد عند أولها عن شهادة أن لا إله إلا الله فإن جاء بها تامة جاز إلى الثاني فيسأل عن الصّلوات فإن جاء بها تامة جاز إلى الثالث فيسأل عن الزّكاة فإن جاء بها تامة جاز إلى الرابع فيسأل عن الصوم، فإن جاء به تاماً جاز إلى الخامس، فيسأل عن الحج فإن جاء به تاماً جاز إلى السادس، فيسأل عن العمرة فإن جاء بها تامة جاز إلى السابع، فيسأل عن المظالم فإن خرج منها، وإلا يقال انظروا فإن كان له تطوع أكملت به أعماله فإذا فرغ انطلق به إلى الجنة»، وقيل {كانت مرصادا} أي معدة لهم، وقيل هو من رصدت الشيء أرصده إذا ترقبته، والمرصاد المكان الذي يرصد فيه الراصد العدو، والمعنى إن جهنم ترصد الكفار أي تنتظرهم {للطاغين} أي الكافرين {مآباً} أي مرجعاً يرجعون إليها {لابثين فيها} أي في جهنم {أحقاباً} جمع حقب وهو ثمانون سنة كل سنة اثنا عشر شهراً كل شهر ثلاثون يوم كل يوم ألف سنة يروى ذلك عن علي بن أبي طالب، وقيل الحقب الواحد سبعة عشر ألف سنة.
فإن قلت الأحقاب وإن طالت فهي متناهية وعذاب الكفار في جهنم غير متناه فما معنى قوله أحقاباً.
قلت ذكروا فيه وجوهاً:
أحدها: ما روي عن الحسن قال: إن الله تعالى لم يجعل على النار مدة بل قال: {لابثين فيها أحقاباً}، فوالله ما هو إلا أنه إذا مضى حقب دخل حقب آخر، ثم آخر إلى الأبد فليس للأحقاب عدة إلا الخلود وروي عن عبد الله بن مسعود قال: «لو علم أهل النار أنهم يلبثون في النار عدد حصى الدنيا لفرحوا، ولو علم أهل الجنة أنهم يلبثون في الجنة عدد حصى الدنيا لحزنوا».
الوجه الثاني: أن لفظ الأحقاب لا يدل على نهاية، والحقب الواحد متناه، والمعنى أنهم يلبثون فيها أحقاباً {لا يذوقون فيها} أي في تلك الأحقاب {برداً ولا شراباً إلا حميماً وغساقاً}، فهذا توقيت لأنواع العذاب الذي يبدلونه ولا توقيت للبثهم فيها.
الوجه الثالث: أن الآية منسوخة بقوله: {فلن نزيدكم إلا عذاباً} يعني أن العدد قد ارتفع والخلود قد حصل.
{لا يذوقون فيها برداً} قال ابن عباس: البرد النوم وقيل برداً أي روحاً وراحة، وقيل لا يذوقون برداً ينفعهم.
{ولا شراباً} أي يغنيهم عن عطش {إلا حميماً وغساقاً} أي لكن يشربون حميماً قيل هو الصفر المذاب، وقيل هو الماء الحار الذي انتهى حره و{غساقاً} قال ابن عباس الغساق الزمهرير يحرقهم ببرده، وقيل هو صديد أهل النار.
{جزاء وفاقاً} أي جازيناهم جزاء وافق أعمالهم، وقيل وافق العذاب الذنب فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النار.
{إنهم كانوا لا يرجون حساباً} أي لا يخافون أن يحاسبوا، والمعنى أنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث ولا بأنهم يحاسبون {وكذبوا بآياتنا} أي التي جاءت بها الأنبياء، وقيل كذبوا بدلائل التوحيد والنّبوة والبعث والحساب {كذاباً}، أي تكذيباً قال الفراء هي لغة يمانية فصيحة يقولون في مصدر التفعيل فعال، قال وقد سألني أعرابي منهم يستفتيني: آلحلق أحب إليك أم القصار؟ يريد التقصير.
{وكل شيء} أي من الأعمال {أحصيناه} أي بيناه وأثبتناه {كتاباً} أي في كتاب وهو اللوح المحفوظ، وقيل معناه وكل شيء علمناه علماً لا يزول ولا يتغير ولا يتبدل والمعنى أنا عالم بجميع ما فعلوه من خير وشر، وأنا أجازيهم على قدر أعمالهم جزاء وفاقاً {فذوقوا} أي يقال لهم ذوقوا {فلن نزيدكم إلا عذاباً} قيل هذه الآية أشد آية في القرآن على أهل النار كلما استغاثوا من نوع من العذاب أغيثوا بأشد منه.
قوله: {إن للمتقين مفازاً} أي فوزاً أي نجاة من العذاب، وقيل فوزاً بما طلبوه من نعيم الجنة، ويحتمل أن يفسر الفوز بالأمرين جميعاً لأنهم فازوا بمعنى نجوا من العذاب، وفازوا بما حصل لهم من النّعيم.
ثم فسره قال: {حدائق} جمع حديقة وهي البستان المحوط فيه كل ما يشتهون {وأعناباً} التنكير يدل على تعظيم ذلك العنب {وكواعب} جمع كاعب يعني جواري نواهد قد تكعبت ثديهن {أتراباً} يعني مستويات في السن {وكأساً دهاقاً} قال ابن عباس: مملوءة مترعة، وقيل متتابعة، وقيل صافية {لا يسمعون فيها} أي في الجنة، وقيل في حالة شربهم لأن أهل الدنيا يتكلمون بالباطل في حالة شربهم {لغواً} أي باطلاً من الكلام {ولا كذاباً} أي تكذيباً والمعنى أنه لا يكذب بعضهم بعضاً ولا ينطقون به {جزاء من ربك عطاء حساباً} أي جازاهم جزاء وأعطاهم {عطاء حساباً} أي كافياً وافياً، وقيل {حساباً} يعني كثيراً، وقيل جزاء بقدر أعمالهم {رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطاباً} أي لا يقدر الخلق أن يكلموا الرب إلا بإذنه، وقيل لا يملكون منه خطاباً أي لا يملكون شفاعة إلا بإذنه في ذلك اليوم.
{يوم يقوم الروح والملائكة صفاً} قيل هو جبريل وقال ابن عباس: الروح ملك من الملائكة ما خلق الله مخلوقاً أعظم منه، فإذا كان يوم القيامة قام وحده صفاً، وقامت الملائكة كلهم صفاً واحدًّا فيكون من عظم خلقه مثلهم، وقال ابن مسعود: الروح ملك عظيم أعظم من السموات والأرض والجبال وهو في السماء الرابعة يسبح الله كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة يخلق الله من كل تسبيحة ملكاً يجيء يوم القيامة صفاً وحده، وقيل الروح خلق على صورة بني آدم وليسوا بناس يقومون صفاً والملائكة صفاً هؤلاء جند وهؤلاء جند وقال ابن عباس الروح خلق على صورة بني آدم وما ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد منهم، وعنه أنهم بنو آدم يقومون صفاً والملائكة صفاً، وقيل يقوم سماطان سماط من الروح وسماط من الملائكة {لا يتكلمون} يعني الخلق كلهم إجلالاً لعظمته تعالى جلّ جلاله وتعالى عطاؤه وشأنه من هول ذلك اليوم {إلا من أذن له الرحمن} أي في الكلام {وقال صواباً} أي حقاً في الدنيا وعمل به، وقيل قال لا إله إلا الله قيل الاستثناء يرجع إلى الروح والملائكة، ومعنى الآية لا يشفعون إلا في شخص أذن الرحمن في الشفاعة له، وذلك الشخص ممن كان يقول صواباً في الدنيا، وهو لا إله إلا الله {ذلك اليوم الحق} أي الكائن الواقع لا محالة وهو يوم القيامة.
{فمن شاء اتخذ إلى ربه مآباً} أي سبيلاً يرجع إليه وهو طاعة الله وما يتقرب به إليه {إنا أنذرناكم} أي خوفناكم في الدنيا {عذاباً قريباً} أي في الآخرة وكل ما هو آت قريب {يوم ينظر المرء ما قدمت يداه} يعني من خير أو شر مثبتاً في صحيفته ينظر إليه يوم القيامة.
{ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً} قال عبد الله بن عمرو «إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم وحشر الدّواب والبهائم والوحوش، ثم يجعل القصاص بين البهائم حتى يقتص للشّاة الحماء من الشاة القرناء نطحتها. إذا فرغ من القصاص قيل لها كوني تراباً فعند ذلك {يقول الكافر يا ليتني كنت تراباً} وقيل يقول الله للبهائم بعد القصاص إنا خلقناكم وسخرناكم لبني آدم وكنتم مطيعين لهم أيام حياتكم فارجعوا إلى ما كنتم عليه كونوا تراباً، فإذ رأى الكافر ذلك تمنى، وقال يا ليتني كنت في الدّنيا في صورة بعض هذه البهائم، وكنت اليوم تراباً وإذا قضى الله بين الناس وأمر بأهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، وقيل لسائر الأمم سوى الناس والجن عودوا تراباً فيعودون تراباً فحينئذ يقول الكافر {يا ليتني كنت تراباً}».
وقيل معناه إن الكافر إذا رأى ما أنعم الله به على المؤمنين من الخير، والرحمة، قال يا ليتني كنت تراباً يعني متواضعاً في طاعة الله في الدنيا، ولم أكن جباراً متكبراً، وقيل إن الكافر هاهنا هو إبليس، وذلك أنه عاب آدم وكونه خلق من تراب، وافتخر عليه بأنه خلق من نار فإذا كان يوم القيامة، ورأى ما فيه آدم وبنوه المؤمنين من الثواب والرحمة، وما هو فيه من الشّدة والعذاب قال: {يا ليتني كنت تراباً} قال أبو هريرة يقول التراب لا ولا كرامة لك من جعلك مثلي.
والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه. اهـ.

.قال النسفي:

سورة النبأ مكية وهي أربعون آية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{عَمَّ} أصله (عن ما) وقرئ بها، ثم أدغمت النون في الميم فصار {عما} وقرئ بها، ثم حذفت الألف تخفيفاً لكثرة الاستعمال في الاستفهام وعليه الاستعمال الكثير، وهذا استفهام تفخيم للمستفهم عنه لأنه تعالى لا تخفى عليه خافية {يَتَسَاءلُونَ} يسأل بعضهم بعضاً أو يسألون غيرهم من المؤمنين، والضمير لأهل مكة كانوا يتساءلون فيما بينهم عن البعث ويسألون المؤمنين عنه على طريق الاستهزاء {عَنِ النبإ العظيم} أي البعث وهو بيان للشأن المفخم وتقديره: عم يتساءلون يتساءلون عن النبإ العظيم {الذى هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} فمنهم من يقطع بإنكاره ومنهم من يشك.
وقيل: الضمير للمسلمين والكافرين وكانوا جيعاً يتساءلون عنه، فالمسلم يسأل ليزداد خشية، والكافر يسأل استهزاء {كَلاَّ} ردع عن الاختلاف أو التساؤل هزؤاً {سَيَعْلَمُونَ} وعيد لهم بأنهم سوف يعلمون عياناً أن ما يستاءلون عنه حق {ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} كرر الردع للتشديد و(ثم) يشعر بأن الثاني أبلغ من الأول وأشد.
{أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض} لما أنكروا البعث. قيل لهم: ألم يخلق من أضيف إليه البعث هذه الخلائق العجيبة فلم تنكرون قدرته على البعث وما هو إلا اختراع كهذه الاختراعات؟ أو قيل لهم: لم فعل هذه الأشياء والحكيم لا يفعل عبثاً وإنكار البعث يؤدي إلى أنه عابث في كل ما فعل؟ {مهادا} فراشاً فرشناها لكم حتى سكنتموها {والجبال أَوْتَاداً} للأرض لئلا تيمد بكم {وخلقناكم أزواجا} ذكر أو أنثى {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} قطعاً لأعمالكم وراحة لأبدانكم والسبت القطع {وَجَعَلْنَا الليل لِبَاساً} ستراً يستركم عن العيون إذا أردتم إخفاء ما لا تحبون الاطلاع عليه {وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً} وقت معاش تتقلبون في حوائجكم ومكاسبكم {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً} سبع سموات {شِدَاداً} جمع شديدة أي محكمة قوية لا يؤثّر فيها مرور الزمان أو غلاظاً غلظ كل واحدة مسيرة خمسمائة عام {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} مضيئاً وقّاداً أي جامعاً للنور والحرارة والمراد الشمس {وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات} أي السحائب إذا أعصرت أي شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر، ومنه أعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض، أو الرياح لأنها تنشئ السحاب وتدر أحلافه فيصح أن تجعل مبدأ للإنزال، وقد جاء أن الله تعالى يبعث الرياح فتحمل الماء من السماء إلى السحاب {مَاءً ثَجَّاجاً} منصباً بكثرة {لِّنُخْرِجَ بِهِ} بالماء {حبًّا} كالبر والشعير {وَنَبَاتاً} وكلأ {وجنات} بساتين {أَلْفَافاً} ملتفة الأشجار واحدها لف كجذع وأجذاع، أو لفيف كشريف وأشراف، أو لا واحد له كأوزاع، أو هي جمع الجمع فهي جمع لف واللف جمع لفاء وهي شجرة مجتمعة.
ولا وقف من {أَلَمْ نَجْعَلِ} إلى {أَلْفَافاً} الوقف الضروري على {أَوْتَاداً} و{مَعَاشاً}.
{إِنَّ يوم الفصل} بين المحسن والمسيء والمحق والمبطل {كَانَ ميقاتا} وقتاً محدوداً ومنتهى معلوماً لوقوع الجزاء أو ميعاداً للثواب والعقاب.
{يوم يُنفَخُ} بدل من {يوم الفصل} أو عطف بيان {فِى الصور} في القرن {فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} حال أي جماعات مختلفة أو أمماً كل أمة مع رسولها {وَفُتِحَتِ السماء} خفيف: كوفي أي شقت لنزول الملائكة {فَكَانَتْ أبوابا} فصارت ذات أبواب وطرق وفروج ومالها اليوم من فروج {وَسُيِّرَتِ الجبال} عن وجه الأرض {فَكَانَتْ سَرَاباً} أي هباء تخيّل الشمس أنه ماء {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً} طريقاً عليه ممر الخلق فالمؤمن يمر عليها والكافر يدخلها.
وقيل: المرصاد الحد الذي يكون فيه الرصد أي هي حد الطاغين الذين يرصدون فيه للعذاب وهي مآبهم، أو هي مرصاد لأهل الجنة ترصدهم الملائكة الذين يستقبلونهم عندها لأن مجازهم عليها {للطاغين مَئَاباً} للكافرين مرجعاً {لابثين} ماكثين حال مقدرة من الضمير في {للطاغين} حمزة {لَّبِثِينَ} واللبث أقوى إذ اللابث من وجد منه اللبث وإن قل، واللبث من شأنه اللبث والمقام في المكان {فِيهَا} في جهنم {أَحْقَاباً} ظرف جمع حقب وهو الدهر ولم يرد به عدد محصور بل الأبد كلما مضى حقب تبعه آخر إلى غير نهاية، ولا يستعمل الحقب والحقبة إلا إذا أريد تتابع الأزمنة وتواليها.
وقيل: الحقب ثمانون سنة.
وسئل بعض العلماء عن هذه الآية فأجاب بعد عشرين سنة {لابثين فِيهَا أَحْقَاباً}.
{لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً} أي غير ذائقين حال من ضمير {لابثين} فإذا انقضت هذه الأحقاب التي عذبوا فيها بمنع البرد والشراب بدلوا بأحقاب أخر فيها عذاب آخر وهي أحقاب بعد أحقاب لا انقطاع لها.
وقيل: هو من حقب عامنا إذا قل مطره وخيره، وحقب فلان إذا أخطأه الرزق فهو حقب وجمعه حقاب فينتصب حالاً عنهم أي لابثين فيها حقبين جهدين و{لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً} تفسير له.
وقوله: {إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً} استثناء منقطع أي {لاَ يَذُوقُونَ} في جهنم أو في الأحقاب {بَرْداً} روْحاً ينفس عنهم حر النار أو نوماً ومنه منع البرد البرد، {وَلاَ شَرَاباً} يسكن عطشهم ولكن يذوقون فيها حميماً ماء حاراً يحرق ما يأتي عليه {وَغَسَّاقاً} ماء يسيل من صديدهم.
وبالتشديد: كوفي غير أبي بكر {جَزَاءً} جوزوا جزاء {وفاقا} موافقاً لأعمالهم مصدر بمعنى الصفة أو ذا وفاق.
ثم استأنف معللاً فقال: {إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً} لا يخافون محاسبة الله إياهم أو لم يؤمنوا بالبعث فيرجوا حساباً {وَكَذَّبُواْ بآياتنا كِذَّاباً} تكذيباً وفعّال في باب فعّل كله فاش {وَكُلَّ شيْءٍ} نصب بمضمر يفسره {أحصيناه كتابا} مكتوباً في اللوح حال أو مصدر في موضع إحصاء، أو أحصيناً في معنى كتبنا لأن الاحصاء يكون بالكتابة غالباً.
وهذه الآية اعتراض لأن قوله: {فَذُوقُواْ} مسبب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات أي فذوقوا جزاءكم والالتفات شاهد على شدة الغضب {فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} في الحديث: «هذه الآية أشد ما في القرآن على أهل النار».
{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً} مفعل من الفوز يصلح مصدراً أي نجاة من كل مكروه وظفراً بكل محبوب ويصلح للمكان وهو الجنة.
ثم أبدل منه بدل البعض من الكل فقال: {حَدَائِقَ} بساتين فيها أنواع الشجر المثمر جمع حديقة {وأعنابا} كروماً عطف على {حَدَائِقَ} {وَكَوَاعِبَ} نواهد {أَتْرَاباً} لدات مستويات في السن {وَكَأْساً دِهَاقاً} مملوءة.
{لاّ يسمعون فيها} في الجنة حال من ضمير خبر (إن) {لغواً} باطلاً {ولا كِذَّاباً} الكسائي: خفيف بمعنى مكاذبة أي لا يكذب بعضهم بعضاً ولا يكاذبه {جزاءً} مصدر أي جزاهم جزاء {مّن رَّبِّكَ عطاءً} مصدر أو بدل من {جزاء} {حساباً} صفة يعني كافياً أو على حسب أعمالهم {رّبِّ السّماواتِ والأرضِ وما بينهما الرّحمنِ} بجرهما: ابن عامر وعاصم بدلاً من {ربك} ومن رفعهما ف {رب} خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره {الرحمن} أو {الرحمن} صفته و{لا يملكون} خبر، أو هما خبران والضمير في {لا يملكونَ} لأهل السماوات والأرض، وفي {منه خطاباً} لله تعالى أي لا يملكون الشفاعة من عذابه تعالى إلا بإذنه أو لا يقدر أحد أن يخاطبه تعالى خوفاً {يوم يقومُ} إن جعلته ظرفاً لـ: {لا يملكون} لا تقف على {خطاباً} وإن جعلته ظرفاً لـ: {لا يتكلمون} تقف {الرُّوحُ} جبريل عند الجمهور وقيل هو ملك عظيم ما خلق الله تعالى بعد العرش خلقاً أعظم منه {والملائكة صَفَّاً} حال أي مصطفين {لاّ يتكلّمون} أي الخلائق ثم خوفاً من {إلاّ من أذن له الرَّحمانُ} في الكلام أو الشفاعة {وقال صواباً} حقاً بأن قال المشفوع له لا إله إلا الله في الدنيا أو لا يؤذن إلا لمن يتكلم بالصواب في أمر الشفاعة.
{ذلك اليوم الحقُّ} الثابت وقوعه {فمن شاءَ اتّخَذَ إلى ربّه مئاباً} مرجعاً بالعمل الصالح {إنّا أنذرناكم} أيها الكفار {عذاباً قريباً} في الآخرة لأن ما هو آتٍ قريب {يوم ينظُرُ المرءُ} الكافر لقوله: {إنا أنذرناكم عذاباً قريباً} {ما قدّمت يداه} من الشر لقوله: {وذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم} [الأنفال: 50-51].
وتخصيص الأيدي لأن أكثر الأعمال تقع بها وإن احتمل أن لا يكون للأيدي مدخل فيما ارتكب من الآثام {وَيقول الكَافِرُ} وضع الظاهر موضع المضمر لزيادة الذم، أو المرء عام وخص منه الكافر وما قدمت يداه ما عمل من خير وشر، أو هو المؤمن لذكر الكافر بعده وما قدم من خير.
و(ما) استفهامية منصوبة بـ: {قدمت} أي ينظر أي شيء قدمت يداه، أو موصولة منصوبة بـ: {ينظر} يقال: نظرته يعني نظرت إليه والراجع من الصلة محذوف أي ما قدمته {يا ليتني كنت تراباً} في الدنيا فلم أخلق ولم أكلف أوليتني كنت تراباً في هذا اليوم فلم أبعث.
وقيل: يحشر الله الحيوان غير المكلف حتى يقتص للجماء من القرناء ثم يرده تراباً، فيود الكافر حاله.
وقيل: الكافر إبليس يتمنى أن يكون كآدم مخلوقاً من التراب ليثاب ثواب أولاده المؤمنين، والله أعلم. اهـ.